الخميس، 29 ديسمبر 2016

حوار في الميتافيزيقا (2)؛ م.ح.



16 ساعة
#مد16 مشاركة في حوار..(2)
زميلنا العزيز ..:
 معك حق في القول بأن تعليقي لم يكن مناقشةً للمنشور (...) . وذلك يعود ربما لموقف خاص بي حول فهمي للحوار، هو أقرب إلى التعارف منه إلى الإقناع أو الاقتناع: أطلع على الرأي الآخر وأبدي رأياً.
 وأنا أبديت رأياً، هو ليس لي، لكني أتبناه: وهو موقف كانط القائل بأن العقل ليس الأداة الصالحة للبحث في الميتافيزيقا.
ولو اعتبرتُ الحجة (في المنشور) قاطعةً، لكان لا معنى لرأيي المذكور. لكن ما أقدره لدى  صديقنا هو احترامه لحق الاختلاف، وهذا ما لا نجده كثيراً عند أصحاب المعتقدات، أكانت دينية أم سياسية أم أخلاقية..
 ولو كان لي أن أبدي رأياً سريعاً في الموضوع، لقلت بأن الحديث عن الحاجة في العبارات الواردة في المنشور لا تحمل نفس المعنى. (ملاحظة: ورد في المنشور مدار النقاش بأن الحاجة إلى الطعام والشراب تثبت وجودَهما، وكذلك الحاجة إلى العبادة تثبت وجود المعبود..)
 فالحاجة إلى الطعام والشراب هي حاجة بيولوجية، تعني أن استمرار الحياة ما كان ممكناً لولاهما. يعني أنهما ضروريان للحياة ولا يُستغنى عنهما.
 أما الحاجة إلى المعبود أو إلى العبادة، فلها معنى آخر. واستمرار الوجود غير مقترن بذلك. هي "حاجة" نفسية ومعرفية. وبظني أن ذلك ناشئ من طبيعة الإنسان المتسائلة، والعارفة التي رأت الكون فتساءلت: من أين جاء؟ واكتشفت الموت والعجز عن تحقيق العدل فافترضت حياةً وعدالةً بعد الموت. وهذا "الافتراض"، لا أقول عنه بأنه صحيح أو خاطئ، وإن كان لديّ ترجيح ما، لكن أقول بأن العقل لا يستطيع إدراكه.
 وتاريخ العبادات يرجح أن ذلك كان يتم بسبب هذه الحاجة النفسية: فمن كان يعبد مظاهر الطبيعة كان يحسب اعتقاداته صحيحة، بينما لا أحد يرى ذلك الآن. الحقيقة هي أن من طبيعة الوعي البشري أن يطرح هذه الأسئلة. لكن حقيقة الأجوبة تختلف باختلاف المعتقدين.
 (إضافة: أظن بأن القول بأن الحاجة إلى الطعام يثبت وجود الطعام، ناتج عن قياس أرسطي مضمر مفاده: لا حياة بغير وجود الطعام، والحياة موجودة، إذاً الطعام موجود. لكن هذا لا ينطبق على القضية الأخيرة. فلا نستطيع القول بأنه لا حياة بغير وجود عبادة.. مفهوم الحاجة يختلف بين القضيتين الأولى والثانية.. وهذا كان له تسمية محددة في منطق أرسطو)
أما في ما يتعلق بأرسطو، فبظني أن جوابه هو الرأي الأكثر تماسكاً من الناحية المنطقية، وهو قوله بقِدم العالم. لأن القول بحدوث العالم يطرح إشكاليات كثيرة تعرفها ويعرفها كل من له إلمام بتاريخ علم الكلام: هل الخالق يتغير حين يخلق العالم وحين يعلم الجزئيات والتغيرات فيه..؟ نظرية أرسطو كانت بمنأى عن هذه الصعوبات المنطقية واحتمال الوقوع في التناقض.
لكن هل نظرية أرسطو هي حقيقة علمية؟ بالتأكيد لا.
أصل الكون سيبقى لغزاً أمام العقل البشري. فلا هو يستغني عن طرح سؤال العلّة: من أين جاء الكون؟ ربما بسبب من عادة ذهنية كما يرى هيوم، لأنه يرى بأن كل ما يحدث ينتج عن مسببٍ سابق له..
وهو إذا افترض علّة مسببة كان أمام مشكلتين: ما علّة هذه العلّة؟ وهي ما أجاب عنها أرسطو بأنه لا يمكننا الاستمرار في الأسباب إلى ما لانهاية.. ولا أجد مبرراً مقنعاً لهذه الإجابة إلا التخلص من المأزق.
وثانياً ما هي العلة التي جعلت العلة الأولى تتبدل وتخلق العالم بعد أن لم يكن؟
في كل الأحوال، أظن بأن تاريخ الإجابات عن هذه الأسئلة هي تاريخ اهتمام الإنسان بهذه المشكلة، وتطورها مرتبط بتطور معارفه. لكن السؤال هو: لماذا يطرح الإنسان هذه الأسئلة، ويقبل عنها بعض الإجابات التي نجدها اليوم لا تستحق عناء التفنيد؟ ربما هو شعوره الملازم بالحاجة إلى ذلك، وتطورت إجاباتُه بتطور قدرته عبر العصور في الإجابة على تلك التساؤلات.
إنه الوعي الشقي الذي يخلق التفاؤل لأنه بحاجة إليه. والذي يفترض الإجابات لأنه بحاجة إلى "الحقيقة". وهذه الإجابات تعبر عن مكوّن أساسي من إنسانية الإنسان، إن لم يكن من حيث بلوغُ الحقيقة، فمن حيث انهمامُه بهذه الموضوعات.
وهي أجوبة راقية، حتى ولو كانت وهميّة، بشرط ألا تكون مدخلاً لاضطهاد الآخرين، أو سوق الناس إلى الجنة بالعصا.
أن تقتنع أنك على صواب، وبأنك وحدك الحاصل على الخلاص، فلا ضير في ذلك، شرط ألا يؤدي بك ذلك إلى ادعاء تكليف إلهي بمحاسبة الناس الآن وهنا، أو ربط حقوق المواطنين بناء على ما يعتقدون، وهو ما تجاوزه العالم الغربي (الكافر) منذ قرون، بينما ما زالت الأمور في مجتمعاتنا ودولنا على ما نعلمه جميعاً.
ما أقدّره عند المحاور، ليس أين نختلف وأين نتفق، بل أننا نتفق على أنه يحق لنا الاختلاف.

م.ح.
28/12/2016 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق