الأحد، 5 مارس 2017

الشيء في ذاته؛ محمد الحجيري.




الشيء في ذاته.

قبل ديكارت، كان العالم موجوداً ومن البديهيات
وهذا العالم يساهم في تشكيل وعينا عنه
مع  ديكارت، أصبح الوعي موجوداً. وهو الذي يسعى للبرهان على وجود العالم وعلى فهمه
مع كانط، استمرت الأولوية لوجود الوعي، أو لوجودِ قوالبِ العقل الأولية، التي تساهم في تشكيل الوعي بالعالم.
الوعي بالعالم إذاً يتشكل بناءً على شكل العقل وشروطه أو الطريقة التي يستطيع من خلالها فهم العالم.
بدايةً، كان العالم يأتي إلى العقل ليحدث وعياً يشبه العالم ذاتَه.
مع كانط، أصبح العالم يأتي إلى العقل ليحدث وعياً يشبه العقل ذاتَه. أو وعياً لم يعد يشبه العالم ذاته، بل يرتبط بقدرة العقل وطريقته في الفهم.
كان العالم يأتي إلى العقل ليحدث وعياً مطابقاً للعالم أو يمكن له أن يكون مطابقاً.
مع كانط، أصبح العقل يذهب إلى العلم ليفهمه، أو يذهب إليه ليستحضره بطريقته هو وبناء على شروطه هو، أي بناءً على شروط العقل ذاته.
لم يعد الوعي المطابق للعالم ممكناً أو في متناول الوعي. أصبح عالماً مقفلاً على كل وعي موضوعي: أصبح "شيئاً في ذاته".
أصبحنا لا نملك إلا وعينا عن العالم، أما العالم كما هو فلم يعد ممكناً. لم يعد من الممكن فصل فهم العالم عن الأداة التي تقوم بهذا الفهم.
مع هوسرل، لم يعد بإمكان العقل أن يذهب إلى "اللامكان" كما كان الأمر عند ديكارت.
العقل الذي لا يجد مكاناً يذهب إليه أو موضوعاً يعقله، لن يكون عقلاً.
هوسرل يشبه كانط هنا أكثر مما يشبه ديكارت. رغم أنه انطلق بتأملات "ديكارتية".
كان كانط يعتبر بأن عقلاً بدون موضوع للتعقل هو عقل فارغ. وبأن موضوعاً بدون "تعقيل"، أو بدون أن تُفرض عليه قوالب العقل أو قوانينه، هو نوع من الفوضى.
لكن هوسرل يذهب بجيوش العقل محاولاً هدم جدران "الشيء في ذاته" التي أقامها كانط.
يعتبر هوسرل بأن معرفة هذا الشيء في ذاته ممكنة، بل يذهب إلى القول بأن لا وجود لهذا "الشيء في ذاته"، ولا وجود إلا لما يظهر للوعي، أو للظواهر.. وبأن معرفة ماهية هذه الظواهر هي معرفة ممكنة.
يبحث هوسرل عن حدس الماهيات، أي عن وعيها مباشرةً.
نحن حين نرى طاولةً حمراء، فإننا نعي اللون الأحمر بشكل مباشر.. ونتحدث عنه، حتى لو لم نرَ إلا هذا الشيء الأحمر.
لسنا بحاجة إلى التجريد الذهني: أي لسنا بحاجة إلى أن نرى الدجاجة الحمراء والوردة الحمراء والطاولة الحمراء وغيرها من الأشياء ذات اللون الأحمر حتى نستخلص مفهوم اللون الأحمر كما كان يذهب إلى ذلك أرسطو في رده على أستاذه أفلاطون.
أفلاطون الذي كان يرى أن مثال أو فكرة اللون الأحمر سابقة في الوجود على وجود الأشياء الحمراء.
نحن نحدس اللون الأحمر مباشرة وليس كنوع من التجريد الذهني الناتج عن الصفة المشتركة للأشياء المتعددة الحمراء.
وكذلك نحن نحدس ماهيات بقية الأشياء مثل هذه الطاولة أو الكرسي أو غير ذلك.
الحواس لا تقدم لنا كل معطيات الكرسي في آن واحد.
حدس ماهية الكرسي هو حدس عقلي مباشر وليس تجريداً ذهنياً.
والتجربة الحسية لا تقدم لنا إلا الجزئيات ولا يمكن أن تكون سبباً للماهيات أو الكليات. إنه الحدس الماهوي.
يحاول هوسرل المصالحة بين الذات والموضوع في تشكيل الوعي، وهذا ما قال به كانط.
لقد حاول هدم جدار "الشيء في ذاته" لولوج ماهية الأشياء.. محاولاً تخطي حواجز كانط بين الوعي بالعلم وحقيقة ذلك العالم.
لكن إذا كان فهمي لهوسرل صحيحاً، فأظنه قد بقي أمام تلك الأسوار ولم يستطع تجاوزها.
أظن أن نقده ربما نجح في زحزحة التجريدات التي قال بها أرسطو: يمكن لنا حدس الكليات لا كنوع من التجريد الذي تقدمه التجربة الحسية بل كنوع من الحدس المباشر.
لكن أظن أنه ما زال بيننا وبين ماهية الشيء في ذاته جدران كانطية عالية ربما يستحيل تجاوزها.
يبدو أن هوسر بتصويبه على كانط لم يصب إلا بعضاً من الإرث الأرسطي..
والله أعلم..

محمد الحجيري
5 آذار 2017


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق